فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



سبحانه أنزل القرآن وأنزل الحديد، ويتبع ذلك: {وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بالغيب} [الحديد: 25].
وجاء معنى البأس من أجل ذلك، وهذا هو السبب الثاني الذي أوصانا به الحق:
إياكم أن تأخذوا منهج الله فقط الذي ينحصر في «افعل ولا تفعل» ولكن خذوا منهج الله بما يحمي منهج الله وهو التقدم العلمي باستخراج كنوز الأرض وتصنيعها كالحديد مثلًا، فسبحانه كما أنزل القرآن يحمل المنهج، فقد أنزل الحديد وعلى الإنسان مهمة استنباط الحديد والمواد الخام التي تُسَهّل لنا صناعة الأجهزة العلمية ونقيم المصانع التي تنتج لنا من الحديد فولاذًا، ونحوِّل الفولاذ إلى دروع، ونصنع أدق الأجهزة التي تُهِّيئ للمقاتل فُرصة النصر. وكذلك نَدّخر المواد الغذائية لتكفي في أيام الحرب.
إذن حركة الحياة كلها جهاد، وإياك أن تقصر فكرة الجهاد عندك على ساحة المعركة، ولكن أعدّ نفسك للمعركة؛ أنك إن أعددت نفسك جيّدًا وعلم خصمك أنك أعددت له، ربما امتنع عن أن يحاربك. والذي يمنع العالم الآن من معركة ساخنة تدمره هو الخوف من قِبَل الكتل المتوازنة لأن كل دولة تُعدّ نفسها للحرب. ولو أن قوة واحدة في الكون لهدمت الدنيا.
وقول الحق: {وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ} نأخذه على أنه جهاد في سبيل منهج الله؛ وندرس هذا المنهج ونفهمه وبعد ذلك نجاهد فيه باللسان وبالسِّنان، ونجاهد فيه بالكتاب ونجاهد فيه بالكتيبة.
إذن فقوله الحق: {وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ} يصنع أمة إيمانية مُتحضرة، حتى لا تترك الفرصة للكافر بالله ليأخذ أسباب الله وأسراره في الكون. فمن يعبد الإله الواحد أولى بسرّ الله في الوجود، ولو فرضنا أنه لن تقوم حرب، لكننا نملك المصانع التي تنتج، وعندنا الزراعة التي تكفي حاجات الناس، عندئذ سنحقق الكفاية. وما لا تستعمله في الحرب سيعود على السلام. ويجب أن تفهموا أن كل اختراعات الحياة التقدمية تنشأ أولأً لقصد الحرب، وبعد ذلك تهدأ النفوس وتأخذ البشرية هذه الإنجازات لصالح السلام. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
في قوله تعالى: {إليه} ثلاثةُ أوجُه:
أحدها: أنه مُتعلِّق بالفِعْل قبله.
الثاني: أنه متعلِّق بنفس {الوَسيلَة}.
قال أبو البقاء: لأنَّها بمعنى المتوسَّل به، فلذلك عَمِلَت فيما قبلها.
يعني: أنَّها ليست بِمَصْدَر، حتى يمتَنِع أن يتقدَّم مَعْمُولها عليها.
الثالث: أنه مُتعلِّق بِمَحْذُوف على أنَّه حال من {الوَسِيلَة}، وليس بالقَوِي.
و{الوسيلة} أي: القُرْبة، فَعِيلَة مِنْ توسَّل إليه فلانٍ بكذا إذا تقرَّب إليه، وجمعها: وَسَائِل.
قال لبيد: [الطويل]
أرى النَّاسَ لا يَدْرُونَ ما قَدْرُ أمْرِهِمْ ** ألاَ كُلُّ ذِي لُبٍّ إلى الله وَاسلُ

أي: متوسّل، فالوسِيلة هي التي يتوسَّلُ بها إلى المَقْصُودِ. اهـ.

.تفسير الآية رقم (36):

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما كان ترك هذه الأوصاف الثلاثة: التقوى وطلب الوسيلة والجهاد مزيلًا للوصف الأول وهو الإيمان، ناسب كل المناسبة تحذيرًا من تركها ذكرُ حال الكفار وأنه لا تنفعهم وسيلة في تلك الدار فقال معللًا لما قبله: {إن الذين كفروا} أي بترك ما في الآية السابقة، ورتب الجزاء عن الماضي زيادة في التحذير {لو أن لهم ما في الأرض} وأكد ما أفهمه الكلام من استغراق الظرف والمظروف فقال: {جميعًا} أي مما كان يطلب منهم شيء يسير جدًا منه، وهو الإذعان بتصديق الجنان إنفاق الفضل من المال، وزاد الأمر هولًا بقوله: {ومثله} ولما كان لدفع الفداء جملة ما ليس له مفرَّقًا قال: {معه}.
ولما كان المقصود تحقير ذلك بالنسبة إلى عظمة يوم التغابن وإن كان عند الكفار الذين جعلوا غاية أمرهم الحياة الدنيا أعظم ما يكون، والإفهام بأن المراد بالمثل الجنس ليشمل ما عساه أن يفرض من الأمثال، أعاد الضمير على هذين الشيئين على كثرتهما وعظمتهما مفردًا، فقال معبرًا بالمضارع الدال على تجديد الرغبة في المسألة على سبيل الاستمرار ولأن السياق للمتصفين بالكفر والمحاربة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم والسعي في الأرض بالفساد، ولذلك صرح بنفي القبول على الهيئة الآتية: {ليفتدوا به} أي يجددوا الافتداء في كل لحظة، أي بما ذكر {من عذاب يوم القيامة}.
ولما كان المراد تهويل الأمر بردّه، وكان ذلك يحصل بغير تعيين الرادّ، قال: {ما تقبل منهم} بالبناء للمفعول، أي على حالة من الحالات وعلى يد من كان، لأن المدفوع إليه ذلك تام القدرة وله الغنى المطلق.
ولما كان من النفوس ما هو سافل لا ينكّبه الرد، وكان الرد لأجل إمضاء المُعَدِّ من العذاب، قال مصرحًا بالمقصود: {ولهم} أي بعد ذلك {عذاب أليم} أي بالغ الإيجاع بما أوجعوا أولياء الله بسترهم لما أظهروا من شموس البيان، وانتهكوا من حرمات الملك الديان. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما أرشد المؤمنين في هذه الآية إلى معاقد جميع الخيرات، ومفاتح كل السعادات أتبعه بشرح حال الكفار، وبوصف عاقبة من لم يعرف حياة ولا سعادة إلا في هذه الدار، وذكر من جملة تلك الأمور الفظيعة نوعين: أحدهما: قوله تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا في الأرض جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة مَا تقبل منهم ولهم عذاب أليم}. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الألوسي:

{إِنَّ الذين كَفَرُواْ} كلام مبتدأ مسوق لتأكيد وجوب الامتثال بالأوامر السابقة، وترغيب المؤمنين في المسارعة إلى تحصيل الوسيلة إليه عز شأنه قبل انقضاء أوانه، ببيان استحالة توسل الكفار يوم القيامة بما هو من أقوى الوسائل إلى النجاة من العذاب فضلًا عن نيل الثواب. اهـ.

.قال الفخر:

الجملة المذكورة مع كلمة {لو} خبر {إن}.
فإن قيل: لم وحد الراجع في قوله: {لِيَفْتَدُواْ بِهِ} مع أن المذكور السابق بيان ما في الأرض جميعًا ومثله؟
قلنا: التقدير كأنه قيل: ليفتدوا بذلك المذكور. اهـ.
قال الفخر:
المقصود من هذا الكلام التمثيل للزوم العذاب لهم، فإنه لا سبيل لهم إلى الخلاص منه.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «يقال للكافر يوم القيامة أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبًا أكنت تفتدي به فيقول نعم فيقال له قد سئلت أيسر من ذلك فأبيت». اهـ.

.قال الألوسي:

{لَوْ أَنَّ لَهُمْ} أي لكل واحد منهم كقوله سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ} [يونس: 54] الخ، وفيه من تهويل الأمر وتفظيع الحال ما ليس في قولنا لجميعهم {مَّا في الأرض} أي من أصناف أموالها وذخائرها وسائر منافعها قاطبة، وهو اسم {إن} و{لَهُمْ} خبرها ومحلها الرفع عندهم خلا أنه عند سيبويه رفع على الابتداء ولا حاجة فيه إلى الخبر لاشتمال صلتها على المسند والمسند إليه، وقد اختصت من بين سائر ما يؤول بالاسم بالوقوع بعد {لَوْ}، وقيل: الخبر محذوف ويقدر مقدمًا أو مؤخرًا قولان، وعند الزجاج والمبرد والكوفيين رفع على الفاعلية أي لو ثبت «أن» لهم ما في الأرض، وقوله تعالى: {جَمِيعًا} توكيد للموصول أو حال منه، وقوله سبحانه: {وَمِثْلَهُ} بالنصب عطف عليه، وقوله عز وجل: {مَعَهُ} ظرف وقع حالًا من المعطوف، والضمير راجع إلى الموصول، وفائدته التصريح بفرض كينونتهما لهم بطريق المعية لا بطريق التعاقب تحقيقًا لكمال فظاعة الأمر.
واللام في قوله تعالى: {لِيَفْتَدُواْ بِهِ} متعلقة بما تعلق به خبر {إن} وهو الاستقرار المقدر في {لَهُمْ} وبالخبر المقدر عند من يراه، وبالفعل المقدر بعد {لَوْ} عند الزجاج ومن نحا نحوه، قيل: ولا ريب في أن مدار الإفتداء بما ذكر هو كونه لهم لا ثبوت كونه لهم وإن كان مستلزمًا له، والباء في {بِهِ} متعلقة بالافتداء، والضمير راجع إلى الموصول {وَمِثْلَهُ مَعَهُ} وتوحيده لكونهما بالمعية شيئًا واحدًا، أو لإجراء الضمير مجرى اسم الإشارة كما مرت الإشارة إلى ذلك، وقيل: هو راجع إلى الموصول، والعائد إلى المعطوف أعني مثله مثله، وهو محذوف كما حذف الخبر من قيار في قوله:
ومن يك أمسى بالمدينة رحله ** فإني وقيار بها لغريب

وقد جوز أن يكون نصب، ومثله على أنه مفعول {مَعَهُ} ناصبه الفعل المقدر بعد {لَوْ} تفريعًا على رأي الزجاج ومن رأى رأيه، وأمر توحيد الضمير حينئذ ظاهر إذ حكم الضمير بعد المفعول معه الإفراد، وأجاز الأخفش أن يعطى حكم المتعاطفين فيثني الضمير، وقال بعض النحاة: الصحيح جوازه على قلة.
واعترض هذا الوجه أبو حيان بأنه يصير التقدير: مع مثله معه وإذا كان ما في الأرض مع مثله كان مثله معه ضرورة، فلا فائدة في ذكر {مَعَهُ} معه لملازمة معية كل منهما للآخر، وأجاب الطيبي بأن {مَعَهُ} على هذا تأكيد، وقال السفاقسي: جوابه أن التقدير ليس كالتصريح، والواو متضمنة معنى مع، وإنما يقبح لو صرح بمع وكثيرًا ما يكون التقدير بخلاف التصريح، كقولهم: رب شاة وسخلتها، ولو صرحت برب فقلت: ورب سخلتها لم يجز، وأجاب الحلبي بأن الضمير في {مَعَهُ} عائد على {مّثْلِهِ} ويصير المعنى مع مثلين وهو أبلغ من أن يكون مع مثل واحد، نعم إن كون العامل ثبت ليس بصحيح لأن العامل في المفعول معه هو العامل في المصاحب له كما صرحوا به، وهو هنا {مَا} أو ضميرها، وشيء منهما ليس عاملًا فيه ثبت المقدر، وأما صحته على تقدير جعله لهم، أو متعلقه على ما قيل، فممتنع أيضًا على ما نقل عن سيبويه أنه قال: وأما هذا لك وأباك فقبيح، لأنه لم يذكر فعل ولا حرف فيه معنى فعل حتى يصير كأنه قد تكلم بالفعل، فإن فيه تصريحًا بأن اسم الإشارة وحرف الجرف والظرف لا تعمل في المفعول معه، وقوله تعالى: {مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة} متعلق بالافتداء أيضًا أي لو أن ما في الأرض ومثله ثابت لهم ليجعلوه فدية لأنفسهم من العذاب الواقع ذلك اليوم.
{مَا تُقُبّلَ مِنْهُمْ} ذلك، وهو جواب {لَوْ} وترتيبه ما قال شيخ الإسلام على كون ذلك لهم لأجل افتدائهم به من غير ذكر الافتداء بأن يقال: وافتدوا به، مع أن الرد والقبول إنما يترتب عليه لا على مباديه للإيذان بأنه أمر محقق الوقوع غني عن الذكر، وإنما المحتاج إلى الفرض قدرتهم على ما ذكر، أو للمبالغة في تحقق الرد، وتخييل أنه وقع قبل الإفتداء على منهاج ما في قوله تعالى: {أَنَاْ ءاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إليك طرفك فلما رآه مستقرًا عنده} [النمل: 40] حيث لم يقل فأتى به فرآه فلما رآه الخ، وما في قوله سبحانه: {وَقَالَتِ اخرج عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} [يوسف: 31] من غير ذكر خروجه عليه السلام عليهن ورؤيتهن له، وقال بعض الأفاضل: إنما لم يكتف بقوله: إن الذين كفروا لو يفتدون بما في الأرض جميعًا من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم، لأن ما في النظم الكريم يفيد أنهم لو حصلوا ما في الأرض ومثله معه لهذه الفائدة وكانوا خائفين من الله تعالى وحفظوا الفدية وتفكروا في الافتداء ورعاية أسبابه كما هو شأن من هو بصدد أمر ما تقبل منهم فضلًا عن أن يكونوا غافلين عن تحصيل الفدية وقصدوا الفدية فجأة، ولهذا لم يقل لو أن لهم ما في الأرض جميعًا ومثله معه ويفتدون به ما تقبل الخ، والجملة الامتناعية بحالها خبر {إِنَّ الذين كَفَرُواْ} وهي كناية عن لزوم العذاب لهم وأنه لا سبيل لهم إلى الخلاص منه، فإن لزوم العذاب من لوازمه أن ما في الأرض جميعًا ومثله معه لو افتدوا به لم يتقبل منهم، فلما كانت هذه الجملة، بل هذه الملازمة لازمة للزوم العذاب عبر عنها بها، وأطلق بعضهم على هذه الجملة تمثيلًا، ولعل مراده على ما ذكره القطب ما ذكره، وقال بعض المحققين: لا يريد به الاستعارة التمثيلية بل إيراد مثال وحكم يفهم منه لزوم العذاب لهم، أي لم يقصد بهذا الكلام إثبات هذه الشرطية بل انتقال الذهن منه إلى هذا المعنى، وبهذا الاعتبار يقال له: كناية، ويمكن تنزيله على التمثيل الإصطلاحي بأن يقال: إن حالهم في حال التفصي عن العذاب بمنزلة حال من يكون له ذلك الأمر الجسيم ويحاول به التخلص من العذاب فلا يتقبل منه ولا يتخلص.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قيل: محله النصب على الحالية، وقيل: الرفع عطفًا على خبر {إن} وقيل: إنه معطوف على {إِنَّ الذين} فلا محل له من الإعراب مثله، وفائدة الجملة التصريح بالمقصود من الجملة الأولى لزيادة تقريره وبيان هوله وشدته، وقيل: إن المقصود بها الإيذان بأنه كما لا يندفع بذلك عذابهم لا يخفف بل لهم بعد عذاب في كمال الإيلام، وكذلك قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار} فإنه لإفادة أنه كما لا يندفع بذلك الافتداء عذابهم لا يندفع دوامه ولا ينفصل. اهـ.